الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
ولا تكرار هنا لأن الآية الأولى بين الأنبياء وأممهم، وهذه بين بعضهم بعضا، وقد جاءت هذه الأفعال بلفظ الماضي مع أنها في القيامة وأحوالها، وهي من الأمور المستقبلة لأنها واجبة الوقوع ومحققة فيها، فلذلك جعل اللّه تعالى مستقبلها كالماضي.واعلم أن كلمة أسرّ التي مصدرها الإسرار من الأضداد، إذ تكون بمعنى الإخفاء ولإظهار، ولذلك اختلف المفسرون فيها، فمنهم من قال أظهروا الندامة وأعلنوها على ما فاتهم، لأن ذلك اليوم ليس بيوم تصبّر وتصنّع كي يظهروا خلاف ما يبطنون، وهو الأولى، لأن استعمال أسر غالبا في الكتمان وهو ما ينصرف إليه الذهن بادئ الرأي، وهو أنسب بالمقام، ومنهم من قال أخفوا أسفهم وندامتهم لئلا يلاموا عليها من قبل غيرهم فيجتمع عليهم عذابان العذاب واللوم أيضا، وعلى هذا يكون المراد بمن يخفي الندامة رؤساء الكفر خشية لومهم من أتباعهم.والندامة هي الغم والأسف على ما فرط من الشخص، وإظهارها يكون بعضّ الأصبع والبرطم والبكاء والصياح، وإخفاؤها بعدم إظهار شيء من ذلك وكتم ما يدل على آثارها، وقد وقع منهم ذلك، أجارنا اللّه، وهذه الآية مكررة في القرآن كثيرا كالرعد والمائدة في ج3 وغيرها، ثم اتبع جل شأنه ما يدل على عظمته واقتداره مما سبق بقوله: {أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} ملكا وعبيدا، ومن كان كذلك فإنه لا يقبل الفداء فليس للكافر أن يقتدى بشيء مما فيهما من العذاب وهما في قبضة ربه وهو من جملة المملوكين فيهما، فكيف يقتدى المملوك بشيء لا يملكه، وهذا على سبيل الفرض والتقدير، لأن الآخرة ليس فيها ما يملك لأن الملك يؤمئذ كلّه للّه، وقد أكد هذا بقوله: {أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} ثابت واقع كما أخبر به رسله لا محالة {وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} ذلك ويجحدون الثواب والعقاب في الدنيا فيقعون في ندامة الآخرة {هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ} في الدنيا {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} في الآخرة {يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} في هذا القرآن على لسان رسوله، فاتعظوا بها فهي نقاء لكم من الكفر {وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ} من داء الجهل الذي هو في القلب وهو أضر من داء الجسد الذي بمرض البدن {وَهُدىً} من الضلال إلى الصواب {وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} من العذاب الدنيوي والأخروي المادي والمعنوي.وهذه الآية عامة لكل البشر المنتفعين به قريش فمن عداهم الموجودين في زمنه صلى اللّه عليه وسلم والآتين بعده من عامة الخلق إلى يوم القيامة، لأن القرآن ما زال ولا يزال رادعا عن الشر، مرغبا بالخير، مطهرا للأخلاق، مصححا للعقائد، منجيا من الجهالات، لما فيه من الأمر والنهي والتخويف والترغيب والترهيب والتحذير والتذكير، وخصّ الصدر دون سائر الجوارح لأنه موضع القلب وهو أعز موضع في بدن الإنسان، قال صلى اللّه عليه وسلم فيما رواه البخاري ومسلم عن أبي عبد اللّه النعمان ابن بشير وهو الذي سميت المعرة الواقعة بين حلب وحماه باسمه: ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب:
ومعناه أن الحرام رزق مثل الحلال، لأن الرزق ما يسوقه اللّه تعالى إلى الحيوان وينتفع به فعلا حراما كان أو حلالا، سواء في ذلك رزق الإنسان والدواب، مأكولا وغير مأكول، ولا يقبح نسبته إلى اللّه تعالى كما تقوله المعتزلة، لأن اللّه تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد في ملكه، فكل ما يقع من حلال أو حرام بتقديره كسائر أنواع الخير والشر، إلا أن الحسن برضاه والقبيح بقضاه، وعقاب مقترف الحرام لسوء مباشرة أسبابه فيلزم على القائل إن الحرام ليس برزق أن من انتفع بالحرام طول عمره لم يرزقه اللّه وهو خلاف الواقع ومباين لقوله تعالى: {وَما مِنْ دَابَّةٍ... إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها} الآية 6 من سورة هود الآتية، وأهل الاعتزال لهم مخالفات كثيرة مع أهل السنة والجماعة منها هذه، ومنها رؤية اللّه تعالى، ومنها أن ما يفعله الإنسان من فاحشة لا دخل لخلق اللّه وإرادته فيها، حتى قيل إن أبا إسحاق الاسفراييني كان ذات يوم عند الصاحب بن عباد، فدخل القاضي عبد الجبار بن أحمد الهمداني، فلما رآه قال سبحان من تنزه عن الفحشاء، فردّ عليه الأستاذ أبو إسحاق بقوله: سبحان من لا يقع في ملكه إلّا ما يشاء.وإنهم يقصدون بذلك إكبار اللّه تعالى وتعظيمه عن أن يكون فاعلا لغير الحسن.وإن أهل السنة والجماعة يمجدونه ويبجلونه فيقولون لا يقع في ملكه من خير أو شر إلا بإرادته وقضائه وقدره، وطريقهم هذا لعمري هو للصواب، لأنا نتحاشى أن نقول بوقوع شيء دون إرادته، إلا أن الخير برضاه والشرّ بقضاء، وفي البيت المذكور آنفا من أنواع البديع التسجيع بين مقالي وقالي، والجناس المطرف وهو ما زاد أحد ركبيه على الآخر حرفا في طرفه الأول، وبين الحل والسحت المطابقة وهي الجمع بين متضادّين، ومعنى الحلال ما نص اللّه أو رسوله، أو أجمع المؤمنون على إباحة تناوله، أو قضى القياس الجلي إباحته بعينه أو جنسه بأن لم يتبين أنه حرام، والحرام ما نص اللّه تعالى أو رسوله صلى اللّه عليه وسلم أو أجمع المسلمون على امتناع تناوله بعينه أو جنسه، أو اقتضى القياس الجلي ذلك، أو ورد فيه حدّ أو تعزير أو وعيد شديد مئول سواء كان تحريمه لمفسدة أو مضرّة خفيّة كالزنى فإن فيه فساد الغراس وتضييع الأنساب وقتل الولد معنّى لعدم وجود من يربيه، ومذكّى المجوس فإن فيه فساد الأبدان أو مضرة أخرى علمها الشارع، أو مضرة واضحة كالسّم والخمر فإن في الأول هلاك النفس، وفي الثاني ذهاب العقل، تدبر.قال تعالى: {وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ} أيحسبون أن اللّه لا يعلم حالهم، أم يظنون أنهم يعافون من عقابه، أم أن اللّه يغفل عن افترائهم، كلا، بل يعلم ولا يغفل، وإن شاء يعاقبهم عليه عقابا شديدا في الآخرة، إذ يجازى فيها كلا بما عمل.وفي هذا الاستفهام توبيخ كبير، وتقريع خطير، ووعيد عظيم لجميع أصناف المخالفين أوامر اللّه الكذب فما دونه بالنظر لإبهامه {إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ} عميم {عَلَى النَّاسِ} بتأخير عقوبتهم وإمهالهم ليرجعوا إليه، وقد أنزل عليهم الكتب وأرسل إليهم الرسل وركب فيهم العقل ليميّزوا الخبيث من الطيب، والحرام من الحلال، والحق من الباطل فيتبعوا الأحسن، ولو عاجلهم بالعقوبة لاحتجوا عليه كأهل الفترة والصغير والمجنون والمريض والفقير والملك المار ذكرهم في الآية الأخيرة من سورة طه، والآية 15 من سورة الإسراء المارتين في ج1، {وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ} نعم اللّه المتوالية عليهم ولا يقدرونها قدرها ولا يستهدون يهدي اللّه ولا يسترشدون بإرشاد رسله ولا يتبعون ما أنزل إليهم من الحق، قال تعالى: {وَما تَكُونُ} يا أكرم الرسل {فِي شَأْنٍ} حال وأمر ومطلق خطب.واعلم أن لفظ الشأن لا يأتي إلا فيما له خطر مما يعظم من الأمور {وَما تَتْلُوا مِنْهُ} من ذلك الشأن، لأن تلاوته معظم شؤونه صلى اللّه عليه وسلم، وعود الضمير إلى الشأن أولى من عوده إلى القرآن لاحتياج تأويل {مِنْ قُرْآنٍ} بمعنى سورة، لأن كل جزء منه قرآن، والإضمار قبل الذكر يكون تفخيما للمضر وهو كما ترى، وقيل إنه يعود إلى التنزيل غير المذكور، وعليه يكون المعنى وما تتلوء من التنزيل {وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ} أيها الناس قليلا كان أو كثيرا، جليلا أو حقيرا {إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا} نراه ونثبته ونحصيه عليكم في صحائفكم، لأنا رقباء عليكم.وقيل إن الخطابين الأولين في قوله تعالى: {وَما تَكُونُ} {وَما تَتْلُوا} له صلى اللّه عليه وسلم ولأمته عامة، لأن العادة إذا خوطب رئيس القوم بشيء كان قومه داخلا فيه لانصرافه إليهم بالتبعية، والأول أولى، إذ روعي في كل من المقامين ما يليق به، فعبّر أولا بالخطابين المذكورين في مقام الخصوص لسيد المخاطبين بالشأن، لأن عمل العظيم عظيم، وعبر بالثاني للأمة جميعهم برّهم وفاجرهم بالعمل العام للجليل والحقير، ليمتاز رأس النوع الإنساني بالخطاب أيضا عن عامة الناس، كما امتاز بغيره عليهم {إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} أي أنه تعالى شاهد عليكم حين الدخول في أعمالكم والخوض بأقوالكم.ومعنى الإفاضة الدخول في العمل على جهة الانتصاب إليه والانبساط فيه والتلبس به {وَما يَعْزُبُ} ولا يغرب ولا يبعد ويخفى ويغيب {عَنْ رَبِّكَ} يا سيد الرسل ما يقع في ملكه {مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ} أو أقل، وذكر الذرة للتقليل عند الناس، وتطلق على السخلة الصغيرة جدا، وهو تعالى لا تخفى عليه خافية مهما قلت {فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ} ولا فيما بينهما أو فوقهما أو تحت الأرض {وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ} منها فعلمه بالقليل كعلمه بالكثير وعلمه بالبعيد كعلمه بالقريب سواء عنده فلا يقع شيء في كونه {إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ} مدون ومثبت بصورة ظاهرة في لوحه العظيم الذي لم يغفل شيئا.قدم في هذه الآية الأرض على السماء وفيما سبق وسيأتي السماء على الأرض في مثل هذه الآية الآية 43 من سورة سبأ الآتية وغيرها، لأن شهادة اللّه تعالى هنا على أهل الأرض وأحوالهم وأعمالهم ووصلها بقوله: {وَما يَعْزُبُ} إلخ حسّن تقديم الأرض، وإلا فحق السماء أن تقدّم على الأرض، لأنها أفضل منها، عدا ما ضمّ جثمان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فإنّه لا شك أفضل من السماء.
|